قصة مريم عليها السلام في هزها الجذع
استطراد إلى قصة مريم وتبيين أن مقامها عند هز الجذع ليس أقل من مقامها في الغرفة
وهنا نكتة شريفة يجب الاعتبار بها في قصة مريم عليها السلام عند هز الجذع وهي
معضودة بقصة أيوب عليه السلام في بركة ركضه وبركات بعض الأنبياء فيما لمسوه وركضوه
وضربوه وذلك أن معظم أهل الإشارة رحمهم الله أصفقوا على أن مريم عليها السلام كان
مقامها في الغرفة أعلى مما كان عند النخلة
واستدلوا على ذلك بما جاء في الخبر عن الرزق الذي كان يجد عندها زكريا عليه السلام
إذا كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فكان يأتيها بلا
سبب فلما نظرت إلى عيسى عليه السلام حين ولدته أحبته فأمرت بالكسب في هز
النخلة لكونها رجعت من جمع إلى تفريق
وقالوا في هذا وأطنبوا وأنشدوا الأبيات المشهورة على قافية الباء إلى غير ذلك وهذه
رحمهم الله وهلة منهم وغفلة عن الأولى والأحرى في حق تلك الصديقة
وأول ما يعترض به عليهم أن يقال لهم من أين يحكمون عليها أنها لما رأت الولد تفرقت
بميل قلبها إليه
وهذا لا يصح إلا بتوقيف والتوقيف في ذلك معدوم وبم تردون على من يدعي نقيض دعواكم
ويبرهن عن ذلك أن مريم عليها السلام ما كانت قط في مقام هو أعلى من مقامها في
تلك الأزمة على تلك الحالة
وعلى قدر الأزمات يأتي الفرج وذلك أنها قبضت في ذلك المقام من سبعة أوجه
أحدها أن خاطبها الملك على ضعفها وصغر سنها ووحدتها في الفلاة وهذا أمر لا يتخيل ما
يكون فيه إلا من دهمه
الثاني أنه كان أول خطاب خوطبت به وقد جاء في الصحيح أن النبي لما خاطبه الملك في
أول مرة كاد أن يتردى من حالق الجبل خيفة من فجأة الملك وفجأة الخطاب وكان عليه
السلام في ثاني حال يأتيه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد عرقا هيبة من فجأة
الوحي وإعظاما للملك
الثالث أن أخبرها بأنها تلد من غير فحل وهذا مما يعظم سماعه لكونه غير معتاد لا سيما
لمثلها
الرابع طريان المخاض عليها وآلامه التي توازي آلام الموت لا سيما أول مخاض
الخامس وهو أشد عليها من كل ما وقع وهو ما يصمها الناس به من الملامة والأذية وإقامة
الحد عليها وهي بريئة
السادس وهو أشد عليها من أذيتها وهو ما يلحق قومها من
الناس إذا قذفوها فإنها صديقة بشاهد القرآن والصديق أشفق على خلق الله مما هو على
نفسه
السابع فيما يكون عذرها إذا اعترضت وأنكر عليها ما جاءت به
فهذه سبع قوابض لو سلط أحدها على جبل لتصدع ويكفيك قولها عند ذلك يا ليتني مت
قبل هذا وكنت نسيا منسيا فأي مقام فوق مقام من ابتلي بمثل هذه المعضلات دفعة
واحدة فصبر وشكر
ويعضد ما قلناه في علو مقامها في ذلك الحال قوله تعالى كلما دخل عليها زكريا المحراب
الآية إلى قوله بغير حساب
وذلك أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها تلك الفواكه المذكورة في غير أوانها فيقول أنى
لك هذا يعني بأي عمل بلغت هذا المقام كان عليه السلام يستعظم ذلك المقام في حقها
لغرارتها وضعفها فتقول هي هو من عند الله
أي ليس ذلك مقاما بلغته بكبير عمل وإنما هو من فضل الله تعالى فكأن ما تشير إليه أنتم
عظماء لكم المقامات والأحوال وأنا ضئيلة ضعيفة فأنتم ترزقون بسبب وأنا بغير سبب
ففي قول زكريا عليه السلام أنى لك هذا دليل على ضعف مقامها في الغرفة فإن
المقامات عند القوم مرتبطة بعلوم مخصوصة وأعمال
مخصوصة وكذلك الأحوال والكرامات أيضا هبة من الله تعالى لهم على قدر مقاماتهم
فلما كان ذلك غاية قبضها وعلاء مقامها في القبض بسطت من سبعة أوجه
أحدها أن كلمها الوليد قال تعالى فناداها من تحتها ألا تحزني قرئ بفتح الميم
فقال قوم ناداها الملك من مكان منخفض عنهما
وقال آخرون ناداها الوليد وهو الأظهر لوجهين
أحدهما أن تحت في حق الوليد أمت والثاني أن تكليم الوليد آنس في الخطاب من كلام
الملك على ما تقدم
والثاني من تقاسيم البسط أن كلمها وليدها ولم يكلمها وليد غيرها لأن تكليم ولدها من
بركات أحوالها
الثالث أن كلمها في الحين فإن فيه تنفيس خناق قبضها بسرعة البشارة
الرابع أن كلمها بالبشارة ألا تحزني
الخامس أن أخبرها أنه سري أي رفيع القدر عند الله تعالى وما يحب أحد أن يكون غيره
أحسن منه إلا ولده
السادس أنه لما كلمها الوليد استبشرت بأنه سيقيم حجتها عند قومها كالذي فعل
السابع وهي البشارة العظمى التي تثبت أن مقامها عند الجذع كان أعلى من مقامها في
الغرفة وهو قوله تعالى لها وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا
وتتصور الكرامة في هزها من أحد عشر وجها
أحدها أنه نبهها على بركة يدها بأن تمس الشيء فيظهر عليه بركة ذلك المس كما جاء
في الصحيح عن عائشة أن رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث
فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وامسح عنه بيده رجاء بركتها
وكما قيل
لو مس عودا سلوبا لاكتسى ورقا ... ولو دعا ميتا في القبر لباه
الثاني أن الملموس كان جذعا والجذع في اللسان هو ساق النخلة إذا جذ رأسها يقول
العرب على كم جذع بيتك مبني وجاء في الخبر فحن الجذع إليه وكانت أسطوانة في
المسجد وقال تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل ولا يكون الصلب إلا في
الخشب فصح أن ساق النخلة إنما يسمى جذعا إذا جز رأسه وإذا جز رأس النخلة يبست
فلا تلقح ولا تورق بعد فلما لمسته أخضر في الحين
الثالث أن نبتت فيها أغصان وورق ورؤوس النخل إذا قطعت لا تخلف
الرابع أن أثمرت في الحين والنخل لا تثمر إلا بعد ريح في أيام كثيرة
الخامس أن صارت رطبا في الحين
السادس قوله جنيا أي حان قطافها فصلحت للجني فإنها قد تسمى رطبا في أول نضجها
قبل أن تصلح للجني على جهة المجاز
وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آنسها بأن أراها مثلا بالجذع اليابس حين اخضر من غير
سقي وبعد يبسه اخضر وأثمر في الحين كما ولد عيسى عليه السلام من غير فحل
وتكلم في الحين وتم خلقه دفعة وولد في الحين فتلك بتلك
السابع أن هزتها فتساقطت ومعلوم أن هز مثلها على ما هي عليه من ضعفها ونفاسها
لسوق النخل لا يسقط الرطب فإن كان أعطيت في الحين قوة تهز بها النخل فتسقط رطبها
فخرق كبير وإن تساقطت الرطب للمسها إياها فخرق آخر أكبر منه
قوله الثامن لها فكلي واشربي فإن فيه بشارة بسرعة الخلاص من ألمها فإن النفساء لا
تأكل ولا تشرب إلا بعد مدة لشغلها بألمها
التاسع أنه بشرها بحصول الطعام والشراب عندها لأن كانت بأرض فلاة فإن الناس يخافون
عدمهما في الفلوات
العاشر قوله لها وقري عينا فعلمت بكلامه الخارق أنه لا يكذبها فأنست
الحادي عشر أنه علمها كيف تجيب إذا سألها قومها في قوله لها فقولي إني نذرت
للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا
ألا ترى إلى طمأنينتها إلى مبارأة ولدها كيف أتت به قومها تحمله ظاهرا لهم وقد كادت تفر
به إلى بلد آخر أو تخفيه ما استطاعت فلا يشعر به قومها فلما طابت نفسها به في إقامة
حجتها عند قومها أتتهم به تحمله ظاهرا لهم
فهذه رحمك الله سبعة أحوال ثوبها ربها عليها بثمانية عشر حالا سبعة منها قبل الهز وأحد
عشر بعده كلها تتضمن من البسط والأنس والكرامات ما يدل على رفعة شأنها وعزة مكانها
عند ربها فكيف تبخس هذه الصديقة في حقها وتحط عن مقامها في الهز
ويعضد ما رمناه من علو المقام لها في ذلك الوقت صحة الشبه في قوله تعالى لأيوب عليه
السلام أركض برجلك أراد تعالى أن يريه عاقبة صبره وبركة تصرفه وفائدة ركضه وثمرة
لمسه الأرض بأخمصيه ومعلوم أن المياه لا تنبع بسبب الركض على مجرى العادة
وأن الركض يخرج مخرج الهز خرفا بحرف
وكذلك قوله تعالى لموسى عليه السلام اضرب بعصاك الحجر أراد تعالى أن ينبع له الماء
بواسطة الضرب حتى تظهر كرامته عند بني إسرائيل
وكذلك في البحر حين ضربه فانفلق
وكذلك عيسى عليه السلام كان يركض القبور فيحيي الله به الموتى ويلمس الطين فيصير
طائرا بإذن الله
وكذلك نبينا عليه السلام لمس الماء فنبع من بين أصابعه ولمس الطعام فنما وزيد فيه
وتفل في بئر فعذبت وكثر ماؤها وتفل في عين علي كرم الله وجهه فبرأت من داء الرمد
وشربت أم أيمن بوله فبرأت من داء البطن وتفل على رجل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
في الغار حين لسعته العقرب فبرئ في الحين
فليت شعري ما الذي أغفل أولئك الجلة عن هذه الأدلة حتى يغضوا من مقام مريم عليها
السلام بالهز وهو الأعلى كما ترى أيها اللبيب الفطن المتناصف
فإن قيل إنما كانت تلك الأفعال منهم على سبيل إظهار المعجزة لكونهم أنبياء ومريم عليها
السلام لم تكن نبية
قلنا ليس الأمر كذلك بدليل أنهم لو تحدوا بتلك الخروق من غير تناول منهم لها فوقعت
على وفق تحديهم بها لصحت المعجزة وإذا صحت المعجزة دون التناول باللمس والضرب
علم أن تلك الأفعال وقعت إكراما لهم زائدا على ثبوت المعجزة وأيضا فإن اللمس والضرب
والتفل ليس من قبيل المعجزات فإنه معتاد والمعتاد لا يكون معجزة
فهذا هذا ومن اعترض من المقلدة بالجزاف فعليه الدليل ولا دليل فإن القوم الذين قالوا ذلك
لم يأتوا بدليل سوى ما نقرره من أن التوكل فوق الكسب
وهذه مسألة قد حفيت فيها الأقدام واضطربت الأفهام والأظهر فيها أن الكسب مع التوكل
إعلاء فإنه يقع بالظاهر ويبقى الباطن متوكلا فإذا تصور الجمع بين الظاهر والباطن فالكسب
الحلال ممن جمع بينهما فهو إعلاء مقام لكونهما مقامين وعملين فلا منافرة بين التوكل
والكسب لاختلاف المجال ومريم عليها السلام صديقة ومن بعض مقامات الصديق الجمع
بين الكسب والتوكل
وفي الكسب فائدة كثيرة فإنه مما ينفع الناس ويصلح شؤونهم ويقوم بمنافعهم في
لباسهم وأقواتهم
فلو ترك الناس الكسب بالجملة لهلكت الأرض ومن عليها فقد تصورت فيه المنفعة العظمى
وقد جاء عنه عليه السلام أنه قال سيد القوم خادمهم
وجاء عنه عليه السلام أنه قال الناس عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله
والمنفعة على ضربين دنيوية وأخروية
فالأخروية إرشاد المكلف وتعليمه ما يلزمه من وظائف التكليف
والدنيوية معالجة المعيشة بالأسباب العادية التي يقوم بها أود الحاجات وإبقاء رمق حياة
فقد انحصرت المنفعة الدنيوية في الكسب وفيه أيضا سبب للمنفعة الأخروية فإنه لولا سد
الجوعة وستر العورة على مقتضى الشرع ومجرى العادة لم تكن الحياة ولا تصورت عبادة
فأهلا بالكسب وأهله فإنهم أحب الناس إلى الله تعالى وكيف يعاب الكسب أو يغض من
قدره وقد أثبته سيد الرسل لنفسه حيث قال جعل رزقي تحت ظل رمحي يعني ما يأكل
من الغنائم بسبب الكسب بالرمح وما فوق مقام رسول الله مقام
وأمر الله تعالى داوود عليه السلام بالكسب حيث قال له أن اعمل سابغات وقدر في السرد
يعني سابغات الدروع ولذلك أخبر أن داوود عليه السلام كان يأكل من كسبه في عمل
الدروع
وكذلك جاء في الأثر أن سليمان عليه السلام كان يأكل من عمل الخوص
وجاء عنه أنه قال اطلبوا الرزق في خبايا الأرض يعني فيما يزرع وقال لصاحب الناقة اعقلها
وتوكل
وهذه الأخبار تدل على إثبات الكسب شرعا وأنه لا يقدح في التوكل
فخرج من هذه الأحاديث إثبات الكسب شرعا وأن مريم عليها السلام كان مقامها في تلك
الحالة إعلاء لكونها جمعت بين الكسب والتوكل
وقد نظمت في ذلك على نقيض ما نظموه في قولهم إذ قالوا
ألم تر أن الله أوحى لمريم ... إليك فهزي الجذع تساقط الرطب فقلت
أما علموا أن المقام سما بها ... لأن جمعت بين التوكل والسبب
بأن لمست جذعا فأينع رأسه ... على الحين أفنانا وأثمر بالرطب
كما مس أيوب اليبيس برجله ... ففارت عيون طهرته من الصخب
ومس كليم الله بالعود صخرة ... ففجر من أرجائها الماء فانسكب
ومس المسيح الطين بالخلق فانتشا ... طيورا بإذن الله أحياء تضطرب
ومس يمين المصطفى الماء نطفة ... ففاضت عيون الماء من خلل العصب
فعض على هذه القولة يا أيها المتناصف الفطن بالنواجذ وشد عليها كف الضنين فإنها قولة
مقصودة بالبرهان ونادرة ما أراني سبقت إليها واعرف
الرجال بالعلم ولا يعرف العلم بالرجال فمن كل كلام مأخوذ ومتروك إلا من كلام صاحب القبر
فهذا ما من الله تعالى به في تنزيه الأنبياء عليهم السلام على ما تقتضيه الآي وما صح
من الأخبار من غير أن يلحق بواحد منهم ذنب ولا ذم إذ لو جاز ذلك على البعض لجاز على
الكل ومن قدح في عرض واحد منهم ألزم القدح في الكل
وقد أجمعوا على أن من قال في زر نبي إنه وسخ يريد بذلك تنقيصه أنه يقتل ولا يستتاب
احتياطا على أعراضهم السنية أن لا يلحقها نقص فإنهم في النزاهة والعصمة كأسنان
المشط لا يفرق بين أحد من رسله
وكيف وقد قال تعالى لسيدهم ورئيسهم
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده يعني بمكارم أخلاقهم وجميل أفعالهم وأقوالهم
وأحوالهم
وقال تعالى والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم
وهذا هو الحق الذي يرغب فيه ولا يرغب عنه
فإياك أيها المقلد الغر أن تسمع من كل ناعق غبي يدخل الميدان حاسرا حتى تأتيه كل
طعنة سلكى نجلاء فهو لا يعرف ما ألزمه تعالى من دينه ولا ما تخلصه في معتقده
ومعاملته عند الله تعالى فيتكلم في تفاصيل أحوال المرسلين ورؤساء المقربين وهو لا
يعرف النبوة ولا شروطها ولا ما يجب لها
ويستحيل عليها وقد جاء في الصحيح عنه أنه قال الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من
ستة وأربعين جزءا من النبوة وجاء في خبر آخر من سبعين جزءا فليت شعري إذا لم يكن
للعلماء القيام بعلم سبعة من هذه السبعين فما ظنك بالجاهل الغبي الذي غايته تقليد
أمه في الشهادتين فهو من الضفادع والديدان في ضحضاح الغيطان ويريد أن ينهض إلى
مظان العقبان في شماريخ ثهلان
من كتاب
تنزيه الأنبياء
عما نسب إليهم حثالة الأغبياء
أبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي
استطراد إلى قصة مريم وتبيين أن مقامها عند هز الجذع ليس أقل من مقامها في الغرفة
وهنا نكتة شريفة يجب الاعتبار بها في قصة مريم عليها السلام عند هز الجذع وهي
معضودة بقصة أيوب عليه السلام في بركة ركضه وبركات بعض الأنبياء فيما لمسوه وركضوه
وضربوه وذلك أن معظم أهل الإشارة رحمهم الله أصفقوا على أن مريم عليها السلام كان
مقامها في الغرفة أعلى مما كان عند النخلة
واستدلوا على ذلك بما جاء في الخبر عن الرزق الذي كان يجد عندها زكريا عليه السلام
إذا كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فكان يأتيها بلا
سبب فلما نظرت إلى عيسى عليه السلام حين ولدته أحبته فأمرت بالكسب في هز
النخلة لكونها رجعت من جمع إلى تفريق
وقالوا في هذا وأطنبوا وأنشدوا الأبيات المشهورة على قافية الباء إلى غير ذلك وهذه
رحمهم الله وهلة منهم وغفلة عن الأولى والأحرى في حق تلك الصديقة
وأول ما يعترض به عليهم أن يقال لهم من أين يحكمون عليها أنها لما رأت الولد تفرقت
بميل قلبها إليه
وهذا لا يصح إلا بتوقيف والتوقيف في ذلك معدوم وبم تردون على من يدعي نقيض دعواكم
ويبرهن عن ذلك أن مريم عليها السلام ما كانت قط في مقام هو أعلى من مقامها في
تلك الأزمة على تلك الحالة
وعلى قدر الأزمات يأتي الفرج وذلك أنها قبضت في ذلك المقام من سبعة أوجه
أحدها أن خاطبها الملك على ضعفها وصغر سنها ووحدتها في الفلاة وهذا أمر لا يتخيل ما
يكون فيه إلا من دهمه
الثاني أنه كان أول خطاب خوطبت به وقد جاء في الصحيح أن النبي لما خاطبه الملك في
أول مرة كاد أن يتردى من حالق الجبل خيفة من فجأة الملك وفجأة الخطاب وكان عليه
السلام في ثاني حال يأتيه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد عرقا هيبة من فجأة
الوحي وإعظاما للملك
الثالث أن أخبرها بأنها تلد من غير فحل وهذا مما يعظم سماعه لكونه غير معتاد لا سيما
لمثلها
الرابع طريان المخاض عليها وآلامه التي توازي آلام الموت لا سيما أول مخاض
الخامس وهو أشد عليها من كل ما وقع وهو ما يصمها الناس به من الملامة والأذية وإقامة
الحد عليها وهي بريئة
السادس وهو أشد عليها من أذيتها وهو ما يلحق قومها من
الناس إذا قذفوها فإنها صديقة بشاهد القرآن والصديق أشفق على خلق الله مما هو على
نفسه
السابع فيما يكون عذرها إذا اعترضت وأنكر عليها ما جاءت به
فهذه سبع قوابض لو سلط أحدها على جبل لتصدع ويكفيك قولها عند ذلك يا ليتني مت
قبل هذا وكنت نسيا منسيا فأي مقام فوق مقام من ابتلي بمثل هذه المعضلات دفعة
واحدة فصبر وشكر
ويعضد ما قلناه في علو مقامها في ذلك الحال قوله تعالى كلما دخل عليها زكريا المحراب
الآية إلى قوله بغير حساب
وذلك أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها تلك الفواكه المذكورة في غير أوانها فيقول أنى
لك هذا يعني بأي عمل بلغت هذا المقام كان عليه السلام يستعظم ذلك المقام في حقها
لغرارتها وضعفها فتقول هي هو من عند الله
أي ليس ذلك مقاما بلغته بكبير عمل وإنما هو من فضل الله تعالى فكأن ما تشير إليه أنتم
عظماء لكم المقامات والأحوال وأنا ضئيلة ضعيفة فأنتم ترزقون بسبب وأنا بغير سبب
ففي قول زكريا عليه السلام أنى لك هذا دليل على ضعف مقامها في الغرفة فإن
المقامات عند القوم مرتبطة بعلوم مخصوصة وأعمال
مخصوصة وكذلك الأحوال والكرامات أيضا هبة من الله تعالى لهم على قدر مقاماتهم
فلما كان ذلك غاية قبضها وعلاء مقامها في القبض بسطت من سبعة أوجه
أحدها أن كلمها الوليد قال تعالى فناداها من تحتها ألا تحزني قرئ بفتح الميم
فقال قوم ناداها الملك من مكان منخفض عنهما
وقال آخرون ناداها الوليد وهو الأظهر لوجهين
أحدهما أن تحت في حق الوليد أمت والثاني أن تكليم الوليد آنس في الخطاب من كلام
الملك على ما تقدم
والثاني من تقاسيم البسط أن كلمها وليدها ولم يكلمها وليد غيرها لأن تكليم ولدها من
بركات أحوالها
الثالث أن كلمها في الحين فإن فيه تنفيس خناق قبضها بسرعة البشارة
الرابع أن كلمها بالبشارة ألا تحزني
الخامس أن أخبرها أنه سري أي رفيع القدر عند الله تعالى وما يحب أحد أن يكون غيره
أحسن منه إلا ولده
السادس أنه لما كلمها الوليد استبشرت بأنه سيقيم حجتها عند قومها كالذي فعل
السابع وهي البشارة العظمى التي تثبت أن مقامها عند الجذع كان أعلى من مقامها في
الغرفة وهو قوله تعالى لها وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا
وتتصور الكرامة في هزها من أحد عشر وجها
أحدها أنه نبهها على بركة يدها بأن تمس الشيء فيظهر عليه بركة ذلك المس كما جاء
في الصحيح عن عائشة أن رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث
فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وامسح عنه بيده رجاء بركتها
وكما قيل
لو مس عودا سلوبا لاكتسى ورقا ... ولو دعا ميتا في القبر لباه
الثاني أن الملموس كان جذعا والجذع في اللسان هو ساق النخلة إذا جذ رأسها يقول
العرب على كم جذع بيتك مبني وجاء في الخبر فحن الجذع إليه وكانت أسطوانة في
المسجد وقال تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل ولا يكون الصلب إلا في
الخشب فصح أن ساق النخلة إنما يسمى جذعا إذا جز رأسه وإذا جز رأس النخلة يبست
فلا تلقح ولا تورق بعد فلما لمسته أخضر في الحين
الثالث أن نبتت فيها أغصان وورق ورؤوس النخل إذا قطعت لا تخلف
الرابع أن أثمرت في الحين والنخل لا تثمر إلا بعد ريح في أيام كثيرة
الخامس أن صارت رطبا في الحين
السادس قوله جنيا أي حان قطافها فصلحت للجني فإنها قد تسمى رطبا في أول نضجها
قبل أن تصلح للجني على جهة المجاز
وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آنسها بأن أراها مثلا بالجذع اليابس حين اخضر من غير
سقي وبعد يبسه اخضر وأثمر في الحين كما ولد عيسى عليه السلام من غير فحل
وتكلم في الحين وتم خلقه دفعة وولد في الحين فتلك بتلك
السابع أن هزتها فتساقطت ومعلوم أن هز مثلها على ما هي عليه من ضعفها ونفاسها
لسوق النخل لا يسقط الرطب فإن كان أعطيت في الحين قوة تهز بها النخل فتسقط رطبها
فخرق كبير وإن تساقطت الرطب للمسها إياها فخرق آخر أكبر منه
قوله الثامن لها فكلي واشربي فإن فيه بشارة بسرعة الخلاص من ألمها فإن النفساء لا
تأكل ولا تشرب إلا بعد مدة لشغلها بألمها
التاسع أنه بشرها بحصول الطعام والشراب عندها لأن كانت بأرض فلاة فإن الناس يخافون
عدمهما في الفلوات
العاشر قوله لها وقري عينا فعلمت بكلامه الخارق أنه لا يكذبها فأنست
الحادي عشر أنه علمها كيف تجيب إذا سألها قومها في قوله لها فقولي إني نذرت
للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا
ألا ترى إلى طمأنينتها إلى مبارأة ولدها كيف أتت به قومها تحمله ظاهرا لهم وقد كادت تفر
به إلى بلد آخر أو تخفيه ما استطاعت فلا يشعر به قومها فلما طابت نفسها به في إقامة
حجتها عند قومها أتتهم به تحمله ظاهرا لهم
فهذه رحمك الله سبعة أحوال ثوبها ربها عليها بثمانية عشر حالا سبعة منها قبل الهز وأحد
عشر بعده كلها تتضمن من البسط والأنس والكرامات ما يدل على رفعة شأنها وعزة مكانها
عند ربها فكيف تبخس هذه الصديقة في حقها وتحط عن مقامها في الهز
ويعضد ما رمناه من علو المقام لها في ذلك الوقت صحة الشبه في قوله تعالى لأيوب عليه
السلام أركض برجلك أراد تعالى أن يريه عاقبة صبره وبركة تصرفه وفائدة ركضه وثمرة
لمسه الأرض بأخمصيه ومعلوم أن المياه لا تنبع بسبب الركض على مجرى العادة
وأن الركض يخرج مخرج الهز خرفا بحرف
وكذلك قوله تعالى لموسى عليه السلام اضرب بعصاك الحجر أراد تعالى أن ينبع له الماء
بواسطة الضرب حتى تظهر كرامته عند بني إسرائيل
وكذلك في البحر حين ضربه فانفلق
وكذلك عيسى عليه السلام كان يركض القبور فيحيي الله به الموتى ويلمس الطين فيصير
طائرا بإذن الله
وكذلك نبينا عليه السلام لمس الماء فنبع من بين أصابعه ولمس الطعام فنما وزيد فيه
وتفل في بئر فعذبت وكثر ماؤها وتفل في عين علي كرم الله وجهه فبرأت من داء الرمد
وشربت أم أيمن بوله فبرأت من داء البطن وتفل على رجل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
في الغار حين لسعته العقرب فبرئ في الحين
فليت شعري ما الذي أغفل أولئك الجلة عن هذه الأدلة حتى يغضوا من مقام مريم عليها
السلام بالهز وهو الأعلى كما ترى أيها اللبيب الفطن المتناصف
فإن قيل إنما كانت تلك الأفعال منهم على سبيل إظهار المعجزة لكونهم أنبياء ومريم عليها
السلام لم تكن نبية
قلنا ليس الأمر كذلك بدليل أنهم لو تحدوا بتلك الخروق من غير تناول منهم لها فوقعت
على وفق تحديهم بها لصحت المعجزة وإذا صحت المعجزة دون التناول باللمس والضرب
علم أن تلك الأفعال وقعت إكراما لهم زائدا على ثبوت المعجزة وأيضا فإن اللمس والضرب
والتفل ليس من قبيل المعجزات فإنه معتاد والمعتاد لا يكون معجزة
فهذا هذا ومن اعترض من المقلدة بالجزاف فعليه الدليل ولا دليل فإن القوم الذين قالوا ذلك
لم يأتوا بدليل سوى ما نقرره من أن التوكل فوق الكسب
وهذه مسألة قد حفيت فيها الأقدام واضطربت الأفهام والأظهر فيها أن الكسب مع التوكل
إعلاء فإنه يقع بالظاهر ويبقى الباطن متوكلا فإذا تصور الجمع بين الظاهر والباطن فالكسب
الحلال ممن جمع بينهما فهو إعلاء مقام لكونهما مقامين وعملين فلا منافرة بين التوكل
والكسب لاختلاف المجال ومريم عليها السلام صديقة ومن بعض مقامات الصديق الجمع
بين الكسب والتوكل
وفي الكسب فائدة كثيرة فإنه مما ينفع الناس ويصلح شؤونهم ويقوم بمنافعهم في
لباسهم وأقواتهم
فلو ترك الناس الكسب بالجملة لهلكت الأرض ومن عليها فقد تصورت فيه المنفعة العظمى
وقد جاء عنه عليه السلام أنه قال سيد القوم خادمهم
وجاء عنه عليه السلام أنه قال الناس عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله
والمنفعة على ضربين دنيوية وأخروية
فالأخروية إرشاد المكلف وتعليمه ما يلزمه من وظائف التكليف
والدنيوية معالجة المعيشة بالأسباب العادية التي يقوم بها أود الحاجات وإبقاء رمق حياة
فقد انحصرت المنفعة الدنيوية في الكسب وفيه أيضا سبب للمنفعة الأخروية فإنه لولا سد
الجوعة وستر العورة على مقتضى الشرع ومجرى العادة لم تكن الحياة ولا تصورت عبادة
فأهلا بالكسب وأهله فإنهم أحب الناس إلى الله تعالى وكيف يعاب الكسب أو يغض من
قدره وقد أثبته سيد الرسل لنفسه حيث قال جعل رزقي تحت ظل رمحي يعني ما يأكل
من الغنائم بسبب الكسب بالرمح وما فوق مقام رسول الله مقام
وأمر الله تعالى داوود عليه السلام بالكسب حيث قال له أن اعمل سابغات وقدر في السرد
يعني سابغات الدروع ولذلك أخبر أن داوود عليه السلام كان يأكل من كسبه في عمل
الدروع
وكذلك جاء في الأثر أن سليمان عليه السلام كان يأكل من عمل الخوص
وجاء عنه أنه قال اطلبوا الرزق في خبايا الأرض يعني فيما يزرع وقال لصاحب الناقة اعقلها
وتوكل
وهذه الأخبار تدل على إثبات الكسب شرعا وأنه لا يقدح في التوكل
فخرج من هذه الأحاديث إثبات الكسب شرعا وأن مريم عليها السلام كان مقامها في تلك
الحالة إعلاء لكونها جمعت بين الكسب والتوكل
وقد نظمت في ذلك على نقيض ما نظموه في قولهم إذ قالوا
ألم تر أن الله أوحى لمريم ... إليك فهزي الجذع تساقط الرطب فقلت
أما علموا أن المقام سما بها ... لأن جمعت بين التوكل والسبب
بأن لمست جذعا فأينع رأسه ... على الحين أفنانا وأثمر بالرطب
كما مس أيوب اليبيس برجله ... ففارت عيون طهرته من الصخب
ومس كليم الله بالعود صخرة ... ففجر من أرجائها الماء فانسكب
ومس المسيح الطين بالخلق فانتشا ... طيورا بإذن الله أحياء تضطرب
ومس يمين المصطفى الماء نطفة ... ففاضت عيون الماء من خلل العصب
فعض على هذه القولة يا أيها المتناصف الفطن بالنواجذ وشد عليها كف الضنين فإنها قولة
مقصودة بالبرهان ونادرة ما أراني سبقت إليها واعرف
الرجال بالعلم ولا يعرف العلم بالرجال فمن كل كلام مأخوذ ومتروك إلا من كلام صاحب القبر
فهذا ما من الله تعالى به في تنزيه الأنبياء عليهم السلام على ما تقتضيه الآي وما صح
من الأخبار من غير أن يلحق بواحد منهم ذنب ولا ذم إذ لو جاز ذلك على البعض لجاز على
الكل ومن قدح في عرض واحد منهم ألزم القدح في الكل
وقد أجمعوا على أن من قال في زر نبي إنه وسخ يريد بذلك تنقيصه أنه يقتل ولا يستتاب
احتياطا على أعراضهم السنية أن لا يلحقها نقص فإنهم في النزاهة والعصمة كأسنان
المشط لا يفرق بين أحد من رسله
وكيف وقد قال تعالى لسيدهم ورئيسهم
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده يعني بمكارم أخلاقهم وجميل أفعالهم وأقوالهم
وأحوالهم
وقال تعالى والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم
وهذا هو الحق الذي يرغب فيه ولا يرغب عنه
فإياك أيها المقلد الغر أن تسمع من كل ناعق غبي يدخل الميدان حاسرا حتى تأتيه كل
طعنة سلكى نجلاء فهو لا يعرف ما ألزمه تعالى من دينه ولا ما تخلصه في معتقده
ومعاملته عند الله تعالى فيتكلم في تفاصيل أحوال المرسلين ورؤساء المقربين وهو لا
يعرف النبوة ولا شروطها ولا ما يجب لها
ويستحيل عليها وقد جاء في الصحيح عنه أنه قال الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من
ستة وأربعين جزءا من النبوة وجاء في خبر آخر من سبعين جزءا فليت شعري إذا لم يكن
للعلماء القيام بعلم سبعة من هذه السبعين فما ظنك بالجاهل الغبي الذي غايته تقليد
أمه في الشهادتين فهو من الضفادع والديدان في ضحضاح الغيطان ويريد أن ينهض إلى
مظان العقبان في شماريخ ثهلان
من كتاب
تنزيه الأنبياء
عما نسب إليهم حثالة الأغبياء
أبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي